عباس بن فرناس أول طيار في التاريخ !


يزخر تاريخنا العربي الإسلامي بعشرات العلماء الذين قدّموا للبشرية إنجازات رائدة في مختلف فروع العلوم، مثل الطب والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والعلوم البصرية... وأسهموا في إنارة الدرب أمام غيرهم من العلماء الغربيين لمتابعة البحث والوصول إلى الاكتشافات الهائلة التي تحققت للبشرية حتى اليوم وأوجدت التراث العلمي العالمي.
وفي مجال الطيران، يذكر التاريخ العالِم العربي الإسلامي "عباس بن فرناس" كأحد الرواد الذين حاولوا التحليق، والذي شكَّلت تجربته الأساس الذي انطلق منه الرواد العالميون اللاحقون في تجاربهم عن الطيران، حتى وصل الطيران إلى ما وصل إليه الآن من تطور مذهل.

من هو عباس بن فرناس؟
اسمه "عباس بن فِرْنَاس بن وَرْداس التاكُريني (وقيل التاكراني) القرطبي" (أبو القاسم)، وهو من أهل قرطبة، ومن موالي بني أميّة في الأندلس. ولد في زمن غير معروف، وتوفي عام 274هـ / 887م (يمكن التوصُّل بشكل تقريبي إلى السنة التي ولد فيها استناداً إلى سنة وفاته عام 274هـ وأنه عاش ما يربو عن الثمانين، فيكون الحاصل حوالي سنة 194هـ، أي في أواخر القرن الثاني الهجري). وكان من عائلة عادية بسيطة ومغمورة ذات أصل بربري من قبيلة "البرانس" أو "التبر" المستقرة في جنوب الأندلس.
وهو أحد عباقرة العلم والأدب والفن المسلمين، وظاهرة فريدة في تاريخ الأندلس، ومخترع وحكيم في ميادين العلوم التجريبية والتطبيقية، وموسوعي وفيلسوف وشاعر، وعلاّمة في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء، واشتهر بأنه صاحب أول محاولة عملية للطيران في العالم الإسلامي بالأندلس، إذ يُعدُّ أول طيار في التاريخ. كما كان صيدلياً، وقرأ الطب، حتى أُطلق عليه لقب "حكيم الأندلس".

محاولته في الطيران
يعتبر عباس بن فرناس – وبحق – أول رائد للطيران الفعلي في العالم الإسلامي وصفحة مشرقة في الحضارة العربية، ولم تقف عبقريته عند الدراسة النظرية لثِقل الأجسام النوعي ومقاومة الهواء لها وتأثير ضغطه عليها إذا ما ارتفعت في السماء وقوانين الجاذبية... بل تعدتها إلى التطبيقات العملية، ففكر في الطيور وكيف تسبح في الفضاء، ثم أدرك أن ثقلها النوعي ومقاومة الهواء لها يضعفان في منطقة الجناحين حيث يتواجد الريش. وكان خير معين له على هذه الدراسة، تبحّره في العلوم الطبيعية والرياضيات والكيمياء. وهكذا، كانت محاولته مبنية على أسس نظرية صحيحة قبل تطبيقها عملياً، غير أنه أغفل موضوع الذَنَب، وهو القسم الضروري للتوجيه وحفظ التوازن.

أشهر ما اقترن باسمه محاولته تصميم رداء يُمكِّن الإنسان من الطيران، فنتيجة براعته في علم الفلك، اتجه إلى تجارب الانزلاق الجوي، ومهَّد لمحاولته هذه بدراسات مطوَّلة لطيران الطيور وتركيب جسم الطير. ولتحقيق ذلك كسا جسمه بقوادم النسر (أكبر ريشات جناح النسر)، وصنع لنفسه جناحين على هيئة أجنحة الطيور، وفرشهما بالريش على قطعة من السَّرَق (الحرير). وبعبارة أخرى، صنع آلة عبارة عن جناحين من عكوس وزوايا مركّبة ومرتبطة بعضها ببعض، وتتحرك بتأثير الحركات المركزية من اليدين والرجلين، وقد كساهما بالقماش والريش. وربطهما في جسمه بشرائط دقيقة من الحرير المتين، وطار بهما في الجو من تل مرتفع قفز منه، في ناحية "الرُّصافة" بظاهر قرطبة قرب جبل العروس، بعد أن أعلن للملأ إنه سيفعل ذلك منها، فاجتمع الناس فيها ليشاهدوا هذا الطائر الآدمي البطل يتهاوى في سماء قرطبة، فهللوا له وقد ارتسمت على وجوههم مظاهر الدهشة والإعجاب، وحلَّق في الجو إلى مسافة بعيدة على مشهد من أهلها، واستقل في الهواء ثم سقط فتأذّى ظهره، وقيل كُسِرت إحدى فقراته (لعلها العجزيّة أو العُصْعُصِيَّة) لأنه لم يجعل له ذنباً، إضافة إلى إصابته بالكدمات والرضوض التي ألزمته الفراش شهوراً عديدة، فلم يكن يدري أن الطائر إنما يقع على زمكه (مؤخرته). فكان أول طيار اخترق الجو في ذلك العصر، حيث يرجع تاريخ هذه المحاولة إلى سنة 267هـ / 880م. ثم عاش بعدها ثماني سنوات، خلافاً لما توهَّمه عدد من المؤرِّخين من أنه توفي نتيجة سقوطه. 

من الواضح أن ابن فرناس لم يقم بتجربته الرائعة بوحي من الخيال، إنما قام بها على أساس من البحث والدرس في ميادين العلم، وبخاصة في الفلك والفيزياء. وكان كثيراً ما يقوم بشرح نظريته في الطيران لرواد منتديات الخلافة في قرطبة نتيجة لدراساته في الرياضيات والفلك، لذلك قام بتجربته الخطرة أمام جمع غفير من أهالي قرطبة، وفيها ما فيها من إيماءات علمية نادرة، فضلاً عن كونها مغامرة بارعة "فاحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه الريش على الحرير، فتهيأ له أن استطار في الجو، فحلَّق فيه حتى وقع على مسافة بعيدة". وهذا النص يكفي لتفسير أبعاد هذه التجربة العلمية الفذَّة، حيث أن ابن فرناس بناها على دراسة فائقة في الفيزياء والفلك، فالرجل الذي يتّخذ من الحرير والريش جناحين له، كان يعلم السر في خفة هذين النوعين، ولا يمكن أن يخفى عليه صنع الذيل. وفي العصر الحديث، نتذكر المواد التي صنعت منها الطائرات الشراعية، واتخاذ مظلات الهبوط من الحرير.

أسباب فشل محاولته
أورد بعض المؤرخين الأسباب المحتملة لفشل ابن فرناس في الهبوط، تتلخص في الآتي:
عدم وجود ذيل يحفظ توازن جسمه عند التحليق والهبوط، ويعمل كدفة عمق وتوجيه، وبالتالي عدم القدرة على المناورة في الجو.
لعلَّ كمية الريش المستعمل في إكساء جناحيه كانت غير كافية، أو لعلَّ ذلك الريش كان قصير الطول، أو قليل الكثافة.
يُحتمل إنه لم يأخذ بعين الاعتبار طول الجناحين، خصوصاً وأن قانون التناسب (النسبة الثابتة بين وزن الطائرة ومساحة الجناحين الأفقية) لم يكن معروفاً في ذلك الزمان.

عدم معرفته لأسلوب هبوط الأجسام الطائرة، خصوصاً الذيل غير موجود، إذ لم يضع في اعتباره أهمية صنع ذيل للرداء الذي اتخذه في الطيران، لإبقاء التوازن وتسهيل عملية الانزلاق في الجو والهبوط فيه. وكذلك غياب إمكانية رفع جناحيه نحو الأعلى لتخفيف قوة الرفع، وبالتالي التحكم في سرعة الهبوط.

لعله لم يقدِّر مقدار الضغط المناسب والضروري لمقاومة وزن جسمه في حالة الهبوط، وذلك عبر قرع الهواء بجناحيه بقوة كافية تجعله يحافظ على ارتفاعه أو يفقده تدريجياً. أو لعلَّ القوة التي طبقها لم تكن كافية، أو أن سرعة رفرفة جناحيه كانت أقل من المطلوب، فالحمامة مثلاً، ترفرف بجناحيها ثلاث مرات في الثانية الواحدة كي تستمر في التحليق، وهي (ككل الطيور) تملك عضلات صدر قوية جداً (نسبةً إلى حجمها) ترتبط بجناحيها، بينما لا يمتلك الإنسان مثل هذه القوة في عضلات ساعديه.
لا يمكن إهمال العامل النفسي الهام في مثل هذه الحالات، إذ من المحتمل إنه ارتبك أو اضطرب أو فزع عندما وجد نفسه معلَّقاً بين الأرض والسماء، مما جعله يفقد قدرة السيطرة على حركات جناحيه فسقط على الأرض.
يُحتمل إنه لم يستطع المحافظة على توازنه في الجو. وهذا عائد لغياب الذيل أيضاً.
لعله لم يحسن اختيار أنسب هبوب منتظم ومستمر للريح، وهي ضرورة حتمية تتطلبها كل لحظة من لحظات الطيران شراعياً، سواء في الإقلاع أو التحليق أو الانحدار والهبوط.

مقارنة بين تجربته وتجربة ليلينتال
وللمقارنة بين فشل تجربة بن فرناس في الهبوط، ونجاح طريقة انحدار المهندس الألماني "أوتو ليلينتال" (رائد الطيران الشراعي الأول) بعد أن راقب تحليق الطيور طويلاً، وهي الطريقة التي نسج على منوالها بعده كل من عالج هذا الموضوع... يمكن القول إن ليلينتال كان يقبض على قضيب متصل بالجناحين، ويجري على سفح جبل إلى أن يشعر بأن الهواء يرفعه بقدر يمكّنه من الطيران، فيقفز إلى الهواء ويبدأ بالانحدار تحت تأثير الجاذبية الأرضية. وكان يتوخى الأماكن التي يهبّ فيها نسيم لطيف ليواجهه عند انحداره، فتزيد بذلك فترة تحليقه وبقائه في الجو. ثم مازال بتصميمه يحسِّنه، وبالتلال ينتخب أنسبها، حتى تمكَّن من أن ينحدر بزاوية بلغ ظلها "ثمن"، أي إنه قطع قبل أن يهبط إلى الأرض مسافة أفقية تعادل ثمانية أمثال ارتفاعه حين قفز في الهواء.

أسطورة خلَّدته في تاريخ التراث العالمي
اعتبرت محاولة ابن فرناس هذه بداية الطريق لولوج عالم الفضاء، وربما كان أثر الحسد الذي ناله من بعض معاصريه قد منعه من إعادة تجربته على أساس جديد من العلم، حيث إنه لم يحسن الاحتيال في هبوطه، فتأذى في مؤخرته. 
مهما يكن من أمر، فإن محاولة ابن فرناس الحقيقية تلك تحولت إلى أسطورة تناقلتها الأجيال العربية باعتزاز وفخار، كما تناقلها الإسبان من بعدهم. فعلى الرغم من أنها كانت لا توحي بنجاحها، إلا أن تلك التجربة لم تكن كلها فاشلة، فقد حلَّق ابن فرناس مسافة ما، كما يؤكد المؤرخون، وهذا وحده يكفي للدلالة على أن محاولته كانت ناجحة جزئياً، وإلا لكان سقط منذ اللحظة التي قذف فيها نفسه من ذلك المكان المرتفع.

ومما لا شك فيه أن ابن فرناس هو الرائد الأول في المحاولة العملية شبه الأسطورية للطيران، وهي التجربة التي فتحت المجال أمام العالم لتحقيق هذا الحلم الذي أصبح حقيقة في أيامنا هذه، ولو أن الغرب لا يعترف لنا – نحن العرب – بذلك. فالطيران في ذلك العصر كان مجرد حلم وتوق، ولم تكن نظرياته معروفة أو حتى موجودة أصلاً، بل كانت مجرد نظريات لا تستند إلّا إلى الحد الأدنى من المعرفة، وحوالي منتصف القرن التاسع عشر للميلاد تحولت هذه الفرضيات إلى نظريات بدائية، ثم بدأ تطبيقها الفعلي والعملي على أرض الواقع في نهاية ذلك القرن.

وتكريماً له، سُمِّيت فوهة قمرية باسمه، عُرِفت بفوهة ابن فرناس القمرية. وصُمِّم في ليبيا طابع بريد يصور محاولته في الطيران، وأُطلق اسمه على فندق مطار طرابلس. كما وُضِعَ في العراق تمثال له على طريق مطار بغداد الدولي، وسُمِّيَ مطار آخر شمال بغداد باسمه "مطار ابن فرناس".

تجارب رائدَين عربيَين آخرَين
تذكر كتب التاريخ محاولة "إسماعيل بن حمَّاد الجوهري"، أحد أئمَّة اللسان واللغة والأدب والخط العربي، الذي وضع جناحين من الخشب وربطهما بحبل، ثم صعد فوق سطح داره في "نيسابور" بخراسان (إيران)، وتأبَّط الجناحين ونهض بهما، فخانه اختراعه وسقط إلى الأرض ميتاً سنة 393هـ / 1003م.

كما تروي الكتب محاولة عربي آخر (مجهول الاسم)، كان يقيم في مدينة القسطنطينية "بيزنطة" (اسطنبول حالياً)، درس تجارب عباس بن فرناس، وتوصَّل إلى أن ريش الطير لا يصلح لطيران الإنسان، ففكّر بمادة أخرى تكون أكثر ملاءمة لهذا الغرض، واعتقد أن القماش يمكن أن يفي بالغرض. وأدَّى تجربته عندما صعد إلى رأس برج عال أمام حشود كبيرة من الناس تجمهروا في ساحة واسعة بمدينة القسطنطينية حوالي سنة 493هـ / 1100م، فاستعمل قطعة كبيرة من القماش، ورتَّبها على شكل جناحي الخفاش (الوطواط)، وربط أجزاءها بالحبال، وشدَّها إلى جسمه ويديه، لكن أجنحته تلك لم تقوَ على تحمُّل وزنه، فتمزَّقت، وسقط إلى الأرض ومات.

وهكذا، يعتبر هؤلاء الثلاثة رواد الجو والفضاء، ولهم يعود الفضل الكبير في تقدم علوم الطيران والفضاء التي أخذت تتطور طيلة ثمانية قرون، حتى تمكَّن الأخوان "أورفيل وويلبر رايت" من الطيران.
أخيراً..

آن الأوان للغرب أن يعترف بعد طول إغفال وتعمُّد إهمال، بأننا وضعنا الأسس العلمية الأولى للطيران، وساهمنا في جعل فكرته واقعاً قائماً، وأنهم (الغرب) لولا ابن فرناس والجوهري والعربي الثالث (مجهول الاسم)، لما وصلت دراساتهم وأبحاثهم وتجاربهم في حقل الطيران إلى ما وصلت إليه اليوم من جعل العالم قرية كونية، وأوصلت الإنسان إلى الفضاء وكواكب أخرى.

[source]