تتكبد حكومات العالم مبالغ طائلة لتغطية مصاريف مؤسسة الرئاسة التي لا بد أن يكون لها «برستيجها» المميز، وعادة ما يكون راتب الرئيس هو الأعلى في القطاع الحكومي، وذلك لأنه من يمثل البلاد في الخارج فهو صورتها وصوتها.
أغلب رؤساء العالم يولون اهتماما كبيرا لمظهرهم، لكن رئيس الأوروغواي يشذ عن هذه القاعدة، باعتباره أفقر رؤساء العالم وفي الآن ذاته أكثرهم كرما وسخاء وأحبهم عند شعبه، خوسي موخيكا قبل انتخابه للرئاسة عام 2010 كان عضوا في جماعة «توباماروس» الثورية اليسارية المسلحة التي استلهمت فكرها من الثورة الكوبية.
ويتلقى موخيكا راتباً شهريا قدره 12 ألف و500 دولار ولكنه يحتفظ لنفسه بنسبة 10 بالمئة فقط من راتبه ويتبرع بالباقي للجمعيات الخيرية في بلاده، وعن ذلك يقول أن المبلغ الذي يتركه لنفسه يكفيه ليعيش حياة كريمة بل ويجب أن يكفيه خاصة وأن العديد من أفراد شعبه يعيشون بأقل من ذلك بكثير. لذلك حصل على اعتراف دولي وعلى لقب «أفقر رئيس في العالم وأكثرهم سخاءً»، ويعيش رئيس الأوروغواي منذ توليه الرئاسة في شهر مارس 2010، في بيت ريفي بمزرعته ويرفض العيش في القصر الرئاسي، كما أنه لا ينتفع بالحراسة المشددة كبقية رؤساء العالم.
وفي فصل الشتاء الذي عادة ما يكون باردا للغاية في أميركا الجنوبية، ينشغل موخيكا بالتفكير في الفقراء من أبناء شعبه وخاصة منهم المشردين الذين يمكن لا يجد مساكن تأويهم وتحميهم من المناخ البارد وقد عرض في شتاء العام الماضي على المصالح الاجتماعية في حكومته استعمال بعض أجنحة القصر الرئاسي المعروف باسم «كاسا سواريث إي رييس» في العاصمة مونتفديو لتوفير المأوى للمشردين في حالة عدم كفاية المراكز الموجودة في العاصمة.
وجاء قراره بعدما اطلع على جميع مراكز الإيواء ونسبة المشردين، وتبين له أن بعض المشردين سيبقون دون مأوى، ولا بد من الإشارة أن مثل هذه القرارات الصادرة عنه ليست من باب التودد ونيل الإعجاب من الرأي العام بل يبدو ذلك من طباعه ومن مبادئه ذات الأصول الشيوعية، فقد سبق له أن أسكن في القصر الرئاسي امرأة وأبناءها المشردين حتى وجدت لهم المصالح الاجتماعية مأوى.
ينشغل موخيكا بالتفكير في الفقراء من أبناء شعبه
ومنذ وصول اليسار إلى الحكم مع الرئيس السابق تاباري باسكس (2005- 2010) بدأ يتخلى عن هذا القصر، واكتفى بإقامة عادية واختزل دور القصر في عقد بعض اللقاءات الرسمية مع قادة الدول الأجنبية، ولما وصل خوسيه موخيكا إلى الرئاسة اتبع نهج سلفه بل وعمل على مزيد من التقشف.
زوجته هي لوسيا توبولانسكي، وهي عضو في مجلس الشيوخ، وتتبرع هي الأخرى بجزء من راتبها، ويقال أنه تزوجها قبل توليه الرئاسة بفترة قصيرة رغم أنه يعيش معها منذ 25 عاما، وفي حديث صحفي معها تقول لويا عن زوجها: «موخيكا رجل ريفي مثقف ذو شخصية جمعت بين الحكمة والحلم، قلبه ظل يحافظ على خفة المراهقة الحالمة، ما جعل الأوروغوايين يطلقون عليه لقب «بيبي» أو «الختيار» أو «الجدّ من دون أحفاد»، هو صريح في كلامه.. وكلانا يعشق عالم الزهور والزراعة».
وتؤكد أنها مستعدة للتضحية مع زوج مثله، وأنه عليها أن تحضر بنفسها يوميا العشاء لزوجها لأنه يحب ذلك، وتضيف أن الجميع يعرفها في الأوروغواي، لأنها تنزل للتسوق بنفسها وتتجول بكل أريحية بين المتاجر وحال ما ينتبه الناس لوجودها يصرون على التقاط الصور والحديث معها.
ويشير مؤشر منظمة الشفافية العالمية أن معدل الفساد في الأوروغواي انخفض بشكل كبير خلال ولاية موخيكا، إذ يحتل هذا البلد الواقع في أميركا الجنوبية المرتبة الثانية في قائمة الدول الأقل فسادا في أميركا اللاتينية، ومن أشهر مقولات موخيكا في هذا المجال: «أهم أمر في القيادة المثالية هو أن تبادر بالقيام بالفعل حتى يسهل على الآخرين تطبيقه».
ولا يتبنى موخيكا المنتمي لحركات اليسار المسلح أسلوبا شعبويا في سياسته بل يتصرف ويعيش ببساطة وهو قليل الظهور في وسائل الإعلام لذلك يوصف بالرئيس العملي الذي يصنف بالأكثر قربا من شعبه في العالم، وتطلق عليه الصحافة «أفقر رئيس في العالم أو رئيس الفقراء» بسبب تواضعه رغم رئاسته للبلاد، هذا بالتحديد ما يميزه عن جميع رجال السياسة في العالم، وفي مقابلة صحفية معه قال موخيكا بكل فخر: أن أغلى شيء يملكه هو سيارته «الفولس فاغن بيتل» ذات الطراز القديم التي لا تتعدى قيمتها ألفي دولار، كما أنه لا يملك حسابات مصرفية ولا ديون، ويستمتع بوقته في مزرعته رفقة زوجته، وأن كل ما يتمناه عند انقضاء فترة حكمه هو مواصلة العيش بنفس النمط.
جمع رئيس أوروغواي رصيداً داعماً من شعبه، وجنده في خدمة بلاده، حينما سمح للجميع بتعاطي الماريغوانا، ورفض الإقامة في قصر الرئاسة، واكتفى بالإقامة مع سيدة البلاد الأولى في منزل بسيط في إحدى القرى المتواضعة على مشارف العاصمة، وبمنطق الزاهد كشف عن فلسفته في كراهية الثراء.
رغم ما تؤكده المعطيات بأن رئيس أوروغواي خوزيه موخيكا يعتلي قائمة زعماء العالم الأكثر فقراً، إلا أنه يرى نفسه ثرياً أو فاحش الثراء، إذ تنصب فلسفته في هذا الخصوص على أن الفقير ليس ذاك الشخص الذي لا يجد مالاً، وإنما في الشخص الذي لا يكفيه ما يحصل عليه من أموال ويطلب الأكثر، ورغم تلك الفلسفة التي تتسم بالزهد، إلا أن موخيكا سمح لشعبه بتدخين الماريغوانا، معتبراً إن تعاطيها حرية ينبغي ممارستها من دون قيود.
وأوضح الرئيس المثير للجدل أنه لا يعيش حياة تقشف، وإنما يستمتع بحياته لاسيما أنه لا يجند كل وقته للحصول على المال، وإنما يكتفي بتحصيل ما يعيش به فقط، ويخصص بقية وقته لفعل ما يريد، مؤكداً بحسب تقرير نشرته مجلة "والاّ" العبرية، إن الحرية وارتجالية الحياة أفضل بكثير من الثراء المادي، الذي يفضي بالإنسان ليصبح أسيراً لشهوة المال.
طفولة بائسة
وتشير أوراق موخيكا الخاصة إلى أنه من مواليد 20 أيار (مايو) عام 1935، من أب ينحدر من إقليم الباسك، وأم ابنة لمهاجرين من ايطاليا، كان والده ديمتراو عاملاً زراعياً بسيطاً، لكنه فارق الحياة عام 1940، فعاش موخيكا طفولة بائسة، يخيم عليها الفقر.
وفي ستينيات القرن الماضي انضم الى حركة "توبماروس"، وهي حركة التحرير الوطني في بلاده، تتألف من مجموعة سياسيين مسلحين، استقت الرغبة في تحرير بلادها من الثورة الكوبية، ووسط هذا المناخ كان موخيكا ثائراً صغيراً في صفوف الحركة، ومارس العديد من الأنشطة العنيفة، وخدم الحركة التي ينتمي إليها بكل ما أوتي من قوة.
نهاية الستينيات وبداية السبعينيات كانت فترة مفعمة بالتوترات داخل أوروغواي، إذ فقد نظام الحكم قدرة السيطرة على الشعب، لاسيما بعد ارتفاع وتيرة الفقر بين شرائح المجتمع المختلفة، فتعرضت الدولة لموجات من أعمال العنف، وبدأ الجيش في التدخل رويداً رويداً.
تعرض موخيكا لإطلاق النار ست مرات خلال مطاردات شرطة بلاده له، وفي عام 1971 اتهم بقتل شرطي وحكم عليه بالسجن، إلا أنه تمكن من الهروب مرتين متتاليتين، فخلال عملية أمنية موسعة تم إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن لمدة أربعة عشر عاماً كاملة، قضى عشر سنوات منها في حبس انفرادي، وأحياناً ما كانت إدارة السجن تلقيه في بئر عميق وتلقي له بقطع من الخبز ليقاوم الموت، كما حظرت إدارة السجن عينه حلاقة شعره لمدة عام كامل، إلا أنه كان بالغ الصلابة والتحمل، وفاق صبره صبر زملائه في السجن ومنهم "هنري انجلر"، الذي كان طالباً في كلية الطب، وأصيب بانهيار نفسي تام في السجن، وعن ذلك يقول موخيكا: "تعلمت كيف أبدأ من جديد في كل مرة يراودني الانهيار. وعن قوة صبره وتحمله، قالت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية: "إن موخيكا يتصدر قائمة ساسة العالم صبراً وجلداً".
العمل السياسي أفضل الطرق للتغيير
وفي عام 1985 بدأ موخيكا حياته من جديد، بعد مرور 12 عاماً من الديكتاتورية العسكرية، إذ تم إطلاق سراحه، وعلى حد قوله، أضافت له سنوات السجن مفهوماً جديداً للعالم، وبات على يقين بأن الطريق الأوحد للتأثير والتغيير ينبع من العمل السياسي، فانضم وصديق له لتنظيمين يساريين، أحدهما "حركة الاشتراك الشعبي"، وهي حزب منشق عن حزب "الجبهة العريضة"، الذي يتألف من عدة أحزاب يسارية صغيرة، ولعبت الكاريزما ورغبته الحثيثة في التغيير دوراً كبيراً في منحه شعبية واسعة وقوة بين أبناء شعبه.
في تلك السنوات بزغت في أميركا الجنوبية شمس حمراء، وانتعش التوجه الاجتماعي، وفي عام 2004، تحولت كتلة موخيكا الى اكبر كتلة في حزب "الجبهة العريضة، حينما تألفت من 300 ألف صوت، وتم تعيين موخيكا وزيراً للزراعة والصيد، وساعد رئيس بلاده في حينه "تابارا واسكس" في إجراء إصلاحات دمجت تركيبات اجتماعية مع أساسيات السوق الحرة. حينئذ غيرت أوروغواي اتجاهها، وهبطت معدلات البطالة والفقر في الدولة، ورفعت الاستثمارات الداخلية والخارجية مستوى البلاد الاقتصادي، ونظراً لأن الدستور في أوروغواي لا يسمح بانتخاب رئيس جديد للبلاد، طالما أن رأس النظام لا يزال في السلطة، فطن الجميع إلى أن موخيكا هو الخليفة المنتظر للرئيس واسكس.
فاز موخيكا في انتخابات بلاده الرئاسية نهاية عام 2009، وفي الأول من آذار (مارس) 2010، تولى مهام منصبه، وفي أعقاب فوزه الساحق في الانتخابات، أعلن أنه لن ينتقل للإقامة في قصر الرئاسة الفاره بالعاصمة، وإنما سيواصل الإقامة في منزله البسيط وفي قرية اقل بساطة مع سيدة البلاد الأولى السيناتورة "لوسيا توبولنسكي"، التي تتبرع هي الأخرى براتبها من الحكومة للشعب.
رجل الشعب ونصير البراغماتية
لم يغيّر موخيكا نمط حياته بعد تولي الرئاسة حتى ولو بقدر طفيف، وعن ذلك قال مازحاً: "إذا طلبت من الشعب أن يعيش في المستوى عينه، الذي أعيش فيه، لكان الشعب أول من قتلني"، فزعامة موخيكا شعبوية، فالجميع يلتف حوله لأنه يرى فيه رجل الشعب، الذي أصر على تحويل بلاده من الراديكالية المتطرفة إلى البراغماتية، واثبت أن موقعه على قمة هرم السلطة، يلزمه بالإصلاح.
وعن نفسه يقول: "أبدو وكأنني رجل هرم وغريب، لكن ذلك هو اختياري وليس فرضاً من أحد"، وشهد على نفسه حينما قال إنه سيظل مقاتلاً شرساً رغم وصوله لسن الثامنة والسبعين، ولم يختلف ذلك عن شراسته في القتال حينما كان في الثامنة عشرة من عمره.
ويميل للطاقة الخضراء، ويعتزم خلال السنوات المقبلة أن تعتمد بلاده على الطاقة الخضراء بنسبة 45%، بينما سيعتمد على 30% من الطاقة على توربينات الهواء، ما يضع اوروغواي على رأس قائمة الدول المنتجة للكهرباء اعتماداً على سرعة الرياح.
ووجه موخيكا الحديث لأبناء شعبه متسائلاً: "إنكم ترغبون في أن نكون في مصاف الدول الغنية، أليس كذلك؟، تخيلوا معي كيف الحال إذا امتلك الهندي على سبيل المثال أموالًا وثروات لا تقل عن نظيره الألماني، هل كان من الممكن أن يتبقى لنا أوكسجين لاستنشاقه؟".
وشن موخيكا هجوماً لاذعاً ضد مؤتمر "راو" الذي نظمته الأمم المتحدة، وتساءل مستنكراً: "هل تتوافر الموارد العالمية اللازمة لوضع ثمانية مليارات إنسان في مستوى يضاهي سكان الدول الأغنياء، فالعالم في حاجة للعدالة أكثر من أي شيء آخر".